ثقافة وليست جينات
الشيخ سلطان بن أحمد القاسمي، رئيس مجلس الشارقة للإعلام
عند تصنيف الأمم والشعوب، تبرز العادات والمسلكيات والممارسات اليومية للناس كمؤشر لمكانتها، وعندما نزور بلداً ما تترك مسلكيات أهله في نفوسنا انطباعات تفوق ما تتركه المباني والمرافق والبنى التحتية والخدمات على أهميتها، لأن السلوك الجيد الملتزم يعني الألفة والنظافة والنظام ويعني سلاسة التعامل واحترام الخصوصيات وحفظ الحقوق، ويعني في المحصلة الوجه الحضاري الإنساني لأي شعب.
والفرق في الممارسات ليس فرقاً في الجينات الوراثية بين أمة وأخرى، وليس قدَراً لا فكاك منه، وليس فرقاً في المناخ أو الجغرافيا أو اللغة والعرق، إنه فرق ثقافي بامتياز، فرق في المعارف والقيم والمفاهيم التي بفعل الضخ المتواصل من مصادرها إلى الجمهور، تتحول إلى ممارسة تلقائية وواعية في الوقت ذاته، تلقائية بمعنى أنها لا تحتاج إلى جهد كبير، وواعية لأن أصحابها يلمسون نتائجها ويقتنعون بأهميتها في كل خطوة.
وعلى الرغم من بداهة التحليل أعلاه فيما يتعلق بالفرق الثقافي الذي يحدد الفرق في الممارسات، إلا أن الضرورة تقتضي إعادة التذكير به، خاصةً بعد سيادة مفردات ثقافية تعزو الفروقات بين الأمم إلى مصادر جامدة لاتتغير كالعرق والجغرافيا. هذا التعريف الخاطئ لأسباب الفروقات احتجز قدرات بعض المجتمعات على التطور وجعلها تسلّم بأن ما هي عليه دائم وأبدي، واستثنى الإرادة والجهد اللازمين لإحداث فرق في منظومة الثقافة السائدة.
السمة الأساسية للثقافة أنها متحركة ومتغيرة وليست ثابتة، والأهم من ذلك أنها تتطور بالتجربة والممارسة، ما يشير إلى أن الممارسات قابلة للتبدل بتبدل الثقافة وأن تتطور بتطورها أيضاً، وبأن اتباع خطط وبرامج طويلة الأجل من قبل الحكومات، أسلوب مثمر تنعكس آثاره ليس فقط على المسلكيات بل على البنية الفكرية للمجتمع بأكمله.
هنا يبرز دور الاتصال الحكومي، في توحيد الجهود وتنسيقها وإثرائها بالعلوم الاجتماعية والسيكولوجية والمسلكية عند تصميم وتنفيذ حملات الاتصال التي تستهدف مسلكيات معينة وتدفع باتجاه تغييرها من حال إلى آخر.
لقد زادت الحاجة لهذا النوع من الاتصال الحكومي مع تطور مفاهيم التنمية واكتشاف العلاقة الشرطية بينها وبين مسلكيات الناس وتوجهاتهم، فالحديث عن استدامة الموارد على سبيل المثال هو حديث عن ترشيد استهلاكها من قبل الأفراد والمجتمع ومؤسساته، وكذلك الحديث عن البيئة واستدامتها والصحة والتعليم والنظافة والنظام العام هو حديث عن مسلكيات الناس المرتبطة بها.
لقد بات من الضروري أن تنتقل التنمية من كونها شعارات وسياسات حكومية إلى وعي فردي وجماعي يترجَم بالمواقف والتصرفات، وهذا لا يتحقق إلا إذا انتقل الاتصال الحكومي أولاً من الإرشاد والتوجيه إلى بناء الثقافة وتأسيس الوعي عبر خطط ممنهجة ومعززة بكل ما يلزم لنجاحها، وبالعودة إلى ما سبق في هذه الفقرة نستطيع القول إن استدامة التنمية مرهونة بعمق الوعي التنموي لدى الجمهور.
تستطيع وحدات الاتصال الحكومي أن تخلق لدى الجمهور ثقافة ووعياً تجاه قضية معينة، لكن ليس من السهل تحويل الثقافة إلى ممارسة وسلوك يومي بالاعتماد على الاتصال وحده، وهنا نحتاج إلى تضافر عدة عوامل لضمان النجاح:
- أن تنسق الجهات الحكومية خطواتها في تصميم وتنفيذ حملات الاتصال، بحيث يتلقى الجمهور المعلومة والرسالة ذاتها من مصادر متعددة في نفس الوقت، وهذا يتطلب إيجاد مرجعية موحدة لهذا النوع من الحملات.
- أن يعمل الاتصال الحكومي إلى جانب أدوات أخرى للتأثير في وعي وثقافة الجمهور. على سبيل المثال، إذا كان السلوك المستهدف هو ترشيد الاستهلاك، فيجب على كافة الجهات هنا أن تتدخل لإنجاح الحملة، كهيئات الكهرباء والمياه التي يمكن أن توضح الحد الأعلى للاستهلاك وتصدر بيانات علمية للمستهلكين عن مخاطر الإفراط، إلى جانب مرافق الخدمات والضيافة والأهالي في البيوت وإدارات المدارس والجامعات والمؤسسات المجتمعية. إن تشكيل منظومة تدفع باتجاه ثقافة متفق عليها، سيسهل على وحدات الاتصال الحكومي تحقيق الأهداف المرجوة من حملاتها.
- أن يشترك خبراء الاتصال مع خبراء السلوك والنفس وعلماء الاجتماع لتصميم حملات تغيير السلوك. إن طبيعة السلوك البشري معقدة والتعامل معها بقصد التغيير عملية دقيقة تحتاج إلى مراعاة حساسية الجمهور تجاه أي دعوة للتغيير.
- من الضروري أن تعبّر فرق الاتصال عن ثقتها بالجمهور وبقدرته على تطوير ممارساته ومسلكياته اليومية، وعلى هذه الثقة أن تكون واضحةً وملموسةً في رسائل ومفردات حملات الاتصال، إن بناء الثقة بين وحدات وفرق الاتصال من ناحية والجمهور من ناحية ثانية، يؤدي إلى تجاوز للمرحلة الأدق من حملات الاتصال، وتعزيز هذه الثقة يشترط أن يكون ممثلو حملات الاتصال والقائمون عليها نموذجاً حياً في تبني الممارسات التي يدعون إليها.
إن رهاننا كخبراء اتصال يستند على أن الطيبة والخير والحق مكونات أصيلة في تركيبة الإنسان، قد تختبىء بعض هذه القيم أو كلها تحت ثقل تفاصيل الحياة اليومية، و لكنها لا تنتهي، ونحن على ثقة بعودتها ناظماً وموجهاً للممارسة، والمسافة اللازمة لهذه العودة هي مسافة مسؤولية القائمين على مصادر الثقافة وحكمتهم في طريقة التواصل مع جمهورهم.